الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الخازن المسمى بـ «لباب التأويل في معاني التنزيل» ***
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)} قوله عز وجل: {ومن لم يستطع منكم طولاً} يعني فضلاً وسعة وإنما سمي الغني طولاً لأنه ينال به من المراد ما لا ينال مع الفقر والطول هنا كناية عما يصرف إلى المهر والنفقة {أن ينكح المحصنات} يعني الحرائر {المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم} يعني جارية أخيك المؤمن فإن الإنسان لا يجوز له أن يتزوج بجارية نفسه {من فتياتكم المؤمنات} المعنى من لم يقدر على مهر الحرة المؤمنة فليتزوج الأمة المؤمنة والفتيات الجواري المملوكات جمع فتاة يقال للأمة فتاة والعبد فتى. وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين: أحدهما أن لا يجد مهر حرة لأنه جرت العادة في الإماء بتخفيف مهورهن ونفقتهن وسبب ذلك اشتغالهن بخدمة ساداتهن. والشرط الثاني وهو خوف العنت على نفسه وهو قوله تعالى ذلك لمن خشي العنت منكم. قال ابن عباس: هو الزنا وهذا قول جابر وابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس ومسروق ومكحول وعمرو بن دينار وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد. وروي عن علي والحسن البصري وابن المسيب ومجاهد والزهري أنه يجوز للحر أن ينكح الأمة وإن كان موسراً وهو مذهب أبي حنيفة إلا أن يكون في نكاح حرة والسبب مع منع الحر من نكاح الأمة إلا عند خوف العنة إن الولد يتبع الأم في الرق والحرية، وإذا كانت الأم رقيقة كان الولد رقيقاً وذلك نقص في حق الحر وفي حق ولده ولأن حق السيد أعظم من حق الزوج فربما احتاج الزوج إليها فلا يجد إليها سبيلاً لأن للسيد حبسها لخدمته ولأن مهرها ملك السيد فلا تقدر على هبته من زوجها ولا أن تبرئه منه بخلاف الحرة فلهذا السبب منع الله من نكاح الأمة إلاعلى سبيل الرخصة والاضطرار ويجوز للعبد نكاح الأمة وإن كان في نكاحه حرة. وعند أبي حنيفة لا يجوز له إذا كانت تحته حرة كما يقول في الحر وفي الآية دليل على أنه لا يجوز للمسلم حراً كان أو عبداً نكاح الأمة الكتابية لقوله تعالى: {من فتياتكم المؤمنات} يفيد جواز نكاح الأمة المؤمنة دون الكتابية لأن فيها نوعين من النقص وهما: الرق والكفر بخلاف الأمة المؤمنة لأن فيها نقصاً واحداً وهو الرق وهذا قول مجاهد والحسن وإليه ذهب مالك والشافعي وقال أبو حنيفة: يجوز التزويج بالأمة الكتابية وبالاتفاق يجوز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وقوله تعالى: {والله أعلم بأيمانكم} قال الزّجاج أي اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم متعبدون بما ظهر والله يتولى السرائر والحقائق وقيل معناه لا تتعرضوا للباطن في الإيمان وخذوا بالظاهر فإن الله أعلم بإيمانكم {بعضكم من بعض} يعني أنكم كلكم من نفس واحدة فلا تستنكفوا من نكاح الإماء عند الضرورة وإنما قيل لهم ذلك لأن العرب كانت تفتخر بالأنساب والأحساب ويسمون ابن الأمة الهجين فأعلم الله تعالى أن ذلك أمر لا يلتفت إليه فلا يتداخلنكم شموخ وأنفة من التزويج بالإماء، فإنكم متساوون في النسب إلى آدم وقيل إن معناه إن دينكم واحد وهو الإيمان وأنتم مشتركون فيه فمتى وقع لأحدكم الضرورة جاز له أن يتزوج بالأمة عند خوف العنت. وقال ابن عباس: يريد أن المؤمنين بعضهم أكفاء بعض {فانكحوهن بإذن أهلهن} يعني اخطبوا الإماء إلى ساداتهن واتفق العلماء على أن نكاح الأمة بغير إذن سيدها باطل لأن الله تعالى جعل إذنه السيد شرطاً في جواز نكاح الأمة {وآتوهن أجورهن} يعني مهورهن {بالمعروف} يعني من غير مطل ولا ضرر. وقيل معناه وآتوهن مهور أمثالهن وأجمعوا على أن المهر للسيد لأنه ملكه وإنما أضيف إيتاء المهر إلى الإماء لأنه ثمن بضعهن {محصنات} يعني عفائف {غير مسافحات} يعني غير زانيات {ولا متخذات أخدان} جمع خدن وهو الصاحب الذي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن وأكثر ما يستعمل فيمن يصاحب بشهوة يقال خدن المرأة وخدينها يعني حبها الذي يزني به في السر. قال الحسن: المسافحة هي التي كل من دعاها تبعته وذات الأخذان هي التي تختص بواحد ولا تزني مع غيره وكانت العرب في الجاهلية تحرم الأولى وتجوز الثانية فلما كان الفرق معتبراً عندهم لا جرم أن الله تعالى أفرد كل واحد من هذين القسمين بالذكر ونص على تحريمهما معاً {فإذا أحصن} قرئ بفتح الألف والصاد ومعناه حفظن فروجهن، وقيل معناه أسلمن وقرأ حفص بضم الألف وكسر الصاد ومعناه زوجن {فإن أتين بفاحشة} يعني بزنى {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} يعني فعلى الإماء اللاتي زنين نصف ما على الحرائر الأبكار إذا زنين من الجلد ويجلد العبد الزنا إذا زنا خمسين جلدة ولا فرق بين المملوك المتزوج وغير المتزوج فإنه يجلد خمسين ولا رجم عليه هذا قول أكثر العلماء ويروى عن ابن عباس وقال طاوس: أنه لا حد على من لم يتزوج من المماليك إذا زنى لأن الله تعالى قال فإذا أحصن والذي لم يتزوج ليس بمحصن وأجيب عنه بأن معنى الإحصان عند الأكثرين الإسلام، وإن كان المراد منه التزويج فليس المراد منه أن التزويج شرط لوجوب الحد عليه بل المراد منه التنبيه على أن المملوك وإن كان محصناً فلا رجم عليه إنما حده الجلد، بخلاف الحر فحد الأمة ثابت بهذه الآية وبيان أنه بالجلد لا بالرجم ثابت بالحديث وهو ما روي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر» أخرجاه في الصحيحين قوله ولا يثرب عليها أي لا يعيرها والتثريب التأبين والتعبير والاستقصاء في اللوم قال الشيخ محيي الدين النواوي: وهذا البيع المأمور به في الحديث مستحب وليس بواجب عندنا وعند الجمهور وقال داود وأهل الظاهر هو واجب وفيه جواز بيع الشيء الثمين بالثمن الحقير وهذا البيع المأمور به يلزم صاحبه أن يبين حالها للمشتري لأنه عيب والإخبار بالعيب واجب. فإن قيل كيف يكره شيئاً ويرتضيه لأخيه المسلم. فالجواب لعلها تستعف عند المشتري بأن يعفها بنفسه أو يصونها بهيبته أو بالإحسان إليها أو يزوجها أو غير ذلك والله أعلم. {ذلك} إشار إلى نكاح الأمة {لمن خشي العنت منكم} يعني الزنا والمعنى ذلك لمن خاف أن تحمله شدة الشبق والغلمة وشدة الشهوة على الزنى وإنما سمي الزنى بالعنت لما يعقبه من المشقة وهي شدى العزوبة فأباح الله تعالى نكاح الإماء بثلاثة شروط: عدم القدرة على نكاح الحرة وخوف العنت وكون الأمة مؤمنة {وأن تصبروا} يعني عن نكاح الإماء متعففين {خير لكم} يعني كيلا يكون الولد عبداً رقيقاً {والله غفور رحيم} وهذا كالتوليد لما تقدم يعني أنه تعالى غفر لكم ورحمكم حيث أباح لكم ما أنتم محتاجون إليه.
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)} قوله تعالى: {يريد الله ليبين لكم} اللام في قوله ليبين معناه أن يبين وقيل معناه يريد إنزال هذه الآيات من أجل أن يبين لكم ديتكم ويوضح لكم شرعكم ومصالح أموركم وقيل يبين لكم ما يقربكم منه وقيل يبين أن الصبر على نكاح الإماء خير لكم {ويهديكم} أي ويرشدكم {سنن الذين من قبلكم} أي شرائع من قبلكم في تحريم الأمهات والبنات والأخوات فإنها كانت محرمة على من قبلكم وقيل معناه يرشدكم إلى ما لكم فيه مصلحة كما بينه لمن كان قبلكم، وقيل معناه ويهديكم إلى الملة الحنيفية وهي ملة إبراهيم عليه السلام و{يتوب عليكم} يعني ويتجاوز عنكم ما أصبتم قبل أن يبين لكم ويرجع بكم عن المعصية التي كنتم عليها إلى طاعته، وقيل لما بين لنا أمر الشرائع والمصالح وأرشدنا إلى طاعته فربما وقع منا تقصير وتفريط فيما أمر به وبينه فلا جرم أنه تعالى قال ويتوب عليكم {والله عليم} يعني بمصالح عباده في أمر دينهم ودنياهم {حكيم} يعني فيما دبر من أمورهم. {والله يريد أن يتوب عليكم} قال ابن عباس معناه يريد أن يخرجكم من كل ما يكره إلى ما يحب ويرضى. وقيل معناه يدلكم على ما يكون سبباً لتوبتكم التي يغفر لكم ما سلف من ذنوبكم وقيل معناه إن وقع منكم تقصير في دينه فيتوب عليكم ويغفر لكم {ويريد الذين يتبعون الشهوات} قيل هم اليهود والنصارى وقيل هم اليهود خاصة لأنهم يقولون إن نكاح بنت الأخت من الأب حلال. وقيل هم المجوس لأنهم يستحلون نكاح الأخوات وبنات الإخوة فلما حرمهن الله قالوا إنكم تحلون بنت الخالة وبنت العمة والخالة والعمة عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت هذه الآية. وقيل هم الزناة يريدون أن تكونوا مثلهم {أن تميلوا} يعني عن الحق وقصد السبيل بالمعصية {ميلاً عظيماً} يعني بإتيانكم ما حرم الله عليكم {يريد الله أن يخفف عنكم} يعني ليسهل عليكم أحكام الشرائع فهو عام في كل أحكام الشرع وجميع ما يسره لنا وسهله علينا إحساناً منه إلينا وتفضلاً ولطفاً علينا، ولم يثقل التكاليف علينا كما ثقلها على بني إسرائيل فهو كقوله تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} وكما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» وقوله تعالى: {وخلق الإنسان ضعيفاً} يعني في قلة الصبر عن النساء فلا صبر له عنهن وقيل إنه لضعفه يستميله هواه فهو ضعيف العزم عن قهر الهوى وقيل هو ضعيف في أصل الخلقة لأنه خلق من ماء مهين. قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} يعني بالحرام الذي لا يحل في الشرع كالربا والقمار والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ونحو ذلك. وإنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيهاً على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل لأن معظم المقصود من المال الأكل، وقيل يدخل فيه أكل ماله نفسه بالباطل ومال غيره أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي، وأما أكل مال غيره فقد تقدم معناه وقيل يدخل في أكل المال الباطل جميع العقود الفاسدة. وقوله تعالى: {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} هذا الاستثناء منقطع لأن التجارة عن تراض ليست من جنس أكل المال بالباطل فكان إلا ها هنا بمعنى لكن يحل أكله بالتجارة عن تراض يعني بطيبة نفس كل واحد منكم. وقيل هو أن يخير كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد البيع فيلزم وإلاّ فلهما الخيار ما لم يتفرقا لما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك منهما البيع فقد وجب البيع» أخرجاه في الصحيحين. قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي لا يقتل بعضكم بعضاً وإنما قال أنفسكم لأنهم أهل دين واحد فهم كنفس واحدة وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع «ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض» وقيل إن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم مخلداً يتردى فيها خالداً مخلداً فيها أبداً ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ به في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً» قوله يتردى التردي هو الوقوع من موضع عال إلى أسفل قوله يتوجأ يقال وجأته بالسكين إذا ضربته بها وهو يتوجأ أي يضرب بها نفسه (ق) عن جندب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «كان برجل جراح فقتل نفسه فقال الله تبارك وتعالى: بدرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة» وفي رواية قال: «كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح فجزع فأخذ سكيناً فحزبها يده فما رقأ الدم حتى مات فقال الله تعالى: بادرني عبدي بنفسه حرمت عليه الجنة» وقيل في معنى قتل الإنسان نفسه أن لا يفعل شيئاً يستحق به القتل مثل أن يقتل فيقتل به فيكون هو الذي تسبب في قتل نفسه، وقيل معناه ولا تقتلوا أنفسكم بأكل المال بالباطل وقيل معناه ولا تهلكوا أنفسكم بأن تعملوا عملاً ربما أدى إلى قتلها {إن الله كان بكم رحيماً} يعني أنه تعالى من رحمته بكم نهاكم عن كل شيء تستوجبون به مشقة أو محنة وقيل إنه تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون ذلك توبة لهم وكان بكم يا أمة محمد رحيماً حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الشاقة الصعبة.
{وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} {ومن يفعل ذلك} يعني ما سبق ذكره من قتل النفس المحرمة لأن الضمير يعود إلى أقرب المذكورات وقيل: إنه يعود إلى قتل النفس وأكل المال بالباطل لأنهما مذكوران في آية وقيل أنه يعود إلى كل ما نهى الله عنه من أول السورة إلى هنا {عدواناً وظلماً} يعني يتجاوز الحد فيضع الشيء في غير موضعه فلذلك قيده بالعدوان والظلم لأنه قد يكون القتل بحق، وهو القصاص وكذلك قد يكون أخذ المال بحق فلهذا السبب قيده بالوعيد وما كان على وجه العدوان والظلم وهو قوله تعالى: {فسوف نصليه ناراً} أي ندخله في الآخرة ناراً يصلى فيها {وكان ذلك على الله يسيراً} أي هيناً قادراً على ما يريد. قوله عز وجل: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} اجتناب الشيء المباعدة عنه وتركه جانباً والكبيرة ما كبر وعظم من الذنوب وعظمت عقوبته وقبل ذكر التفسير نذكر الأحاديث الواردة في الكبائر فمن ذلك ما روي عن أبي بكرة قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثاً قلنا بلى يا رسول الله قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين ألا وشهادة الزور وقول الزور وكان متكئاً فجلس فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت» أخرجاه في الصحيحين (ق) عن أنس بن مالك قال: «ذكر لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فقال: الشرك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس وقال ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو قال شهادة الزور» (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات» قيل يا رسول الله وما هن؟ قال: «الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق وأكل مال اليتيم والزنى والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» (خ) عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك قلت إن ذلك لعظيم ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك قلت ثم أي قال تزاني بحيلة جارك» (ق) عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الكبائر: الإشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس» وفي رواية أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما الكبائر؟ قال: «الإشراك بالله قال ثم ماذا قال اليمين الغموس قلت وما اليمين الغموس قال الذي يقتطع مال امرئ مسلم بيمين هو فيها كاذب» (ق) عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا: وهل يشتم الرجل والديه؟ قال نعم: يسب الرجل أبا الرجل أو أمه: فيسب أباه أو أمه» وفي رواية من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه وذكر الحديث. وقال عبدالله بن مسعود: أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله وعند سعيد بن جبير أن رجلاً سأل ابن عباس عن الكبائر أسبع هي قال هي إلى السبعمائة أقرب وفي رواية إلى السبعين أقرب إلا أنه لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار وقال كل شيء عصي الله به فهو كبيرة فمن عمل شيئاً منها فليستغفر الله فإن الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلا من كان راجعاً عن الإسلام أو جاحداً فريضة أو مكذباً بقدر وقال علي بن أبي طالب: كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب فهو كبيرة. وقال سفيان الثوري: الكبائر ما كان فيه المظالم فيما بينك وبين العباد والصغائر ما كان بينك وبين الله تعالى لأن الله تعالى كريم يغفر ويعفو واحتج لذلك بما روي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ينادي مناد من بطنان العرش يوم القيامة يا أمة محمد إن الله قد عفا عنكم جميعاً المؤمنين والمؤمنات تواهبوا المظالم وأدخلوا الجنة برحمتي» وقال مالك بن مغول: الكبائر ذنوب أهل البدع والسيئات ذنوب أهل السنة، وقيل الكبائر ذنوب العبد والسيئات الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وحديث النفس المرفوع عن هذه الأمة وقال السّدي: الكبائر ما نهى الله عنه من الذنوب والسيئات مقدماتها وتوابعها للتي يقع فيها المصالح والفاسق مثل النظرة واللمسة والقبلة واشباه ذلك (ق) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة العينان زناهما النظر والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام واليد زناها البطش والرجل زناها الخطأ والقلب يهوى ويتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه» لفظ مسلم، وقيل الكبائر الشرك وما يؤدي إليه وما دونه فهو من السيئات فقد ثبت بما تقدم من الأدلة أن من الذنوب كبائر وصغائر إلى هذا ذهب الجمهور من السلف والخلف. وثبت بدلائل الكتاب والسنة وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر فقوله تعالى: إن تجتنبوا كبائر تنهون عنه هي كل ذنب عظم قبحه وعظمت عقوبته إما في الدنيا بالحدود وإما في الآخرة بالعذاب عليه {نكفر عنكم سيئاتكم} يعني نسترها عليكم حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل لأن أصل التكفير الستر والتغطية فصغار الذنوب تكفر بالحسنات ولا تكفر كبارها إلا بالتوبة والإقلاع عنها كما ورد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن» زاد في رواية ما لم تغش الكبائر وزاد في رواية أخرى ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنب الكبائر أخرجه مسلم. وقوله تعالى: {وندخلكم مدخلاً كريماً} يعني حسناً شريفاً وهو الجنة والمعنى إذا اجتنبتم الكبائر وأتيتم الطاعات ندخلكم مدخلاً تكرمونه فيه.
{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)} قوله عز وجل: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} أصل التمني إرادة الشيء وتشهي حصول ذلك الأمر المرغوب فيه ومنه حديث النفس بما يكون وبما لا يكون وقيل التمني تقدير الشيء في النفس وتصويره فيها وذلك قد يكون عن تخمين وظن، وقد يكون عن رؤية وأكثر التمني تصور ما لا حقيقة له وقيل التمني عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون، عن مجاهد عن أم سلمة قالت: قلت يا رسول الله يغزوا الرجال ولا تغزوا النساء وإنما لنا نصف الميراث فأنزل الله تعالى ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض قال مجاهد: وأنزل إن المسلمين والمسلمات وكانت أم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة مهاجرة أخرجه الترمذي. وقال هذا حديث مرسل وقيل لما جعل الله للذكر مثل حظ الأنثيين من الميراث قالت النساء نحن أحق إلى زيادة من الرجال لأنا ضعيفات وهو أقوى وأقدر على طلب المعاش منا فأنزل الله تعالى هذه الآية وقيل لما نزله قوله للذكر مثل حظ الأنثيين قالت الرجال إنا لنرجو أن نفضل على النساء في الحسنات في الآخرة فيكون لنا أجرنا على ضعف أجر النساء كما فضلنا عليهن في الميراث، وقالت النساء إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال كما لنا في الميراث النصف من نصيبهم: فنزلت هذه الآية والتمني على قسمين: أحدهما أن يتمنى الإنسان أن يحصل له مال غيره مع زوال تلك النعمة عن ذلك الغير فهذا القسم هو الحسد وهو مذموم لأن الله تعالى يفيض نعمه على من يشاء من عباده وهذا الحاسد يعترض على الله تعالى فيما فعل وربما اعتقد في نفسه أنه أحق بتلك النعمة من ذلك الإنسان أيضاً فهذا اعتراض على الله أيضاً وهو مذموم. القسم الثاني أن يتمنى مثل مال غيره ولا يحب إن يزول ذلك المال عن الغير وهذا هو الغبطة وهذا ليس بمذموم. ومن الناس من منع منه أيضاً قال لأن تلك النعمة ربما كانت مفسدة في حقه في الدين والدنيا. قال الحسن: لا تتمنى مال فلان ولا تدري لعل هلاكك في ذلك المال فيعلم العبد أن الله عزّ وجلّ أعلم بمصالح عباده فليرضَ بقضائه ولتكن أمنيته الزيادة من عمل الآخرة وليقل: اللّهم اعطني ما يكون صلاحاً في ديني ودنياي ومعادي. قوله تعالى: {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} قال ابن عباس: يعني مما ترك الوالدان والأقربون من الميراث يقول للذكر مثل حظ الأنثيين وقيل هذا الاكتساب في الآخرة يعني أن الرجال والنساء في الأجر في الآخرة سواء لأن الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها يستوي في ذلك الرجال والنساء وإن فضل الرجال في الدنيا على النساء وقيل للرجال نصيب مما اكتسبوا من أمر الجهاد وللنساء نصيب مما اكتسبن يعني من طاعة الأزواج وحفظ الفروج {واسألوا الله من فضله} قال ابن عباس: يعني من رزقه وقيل من عبادته وهو سؤال التوفيق للعبادة وقيل لم يأمر الله عباده بالمسألة إلا ليعطيهم وفيه تنبيه على أن العبد لا يعين شيئاً في الدعاء والطلب لكن يطلب من الله فضل الله ما يكون سبباً لصلاح دينه ودنياه وآخرته وقيل لما تمنى النساء أن يكن رجالاً وأن يكون لهن مثل ما للرجال نهاهن الله عن ذلك وأمرهن أن يسألوه من فضله فإنه أعلم بمصالح عباده {إن الله كان بكل شيء عليماً} يعني أنه تعالى عليم بما يكون صلاحاً للسائلين فليقتصر السائل على المجمل في الطلب فإن الله تعالى عليم بما يصلحه فلا يتمنى غير الذي قدر له.
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآَتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)} قوله تعالى: {ولكل} يعني من الرجال والنساء {جعلنا موالي} يعني ورثة من بني عم وإخوة سائر العصبات {مما ترك} يعني يرثون مما ترك {الوالدان والأقربون} من ميراثهم فعلى هذا الولدان والأقربون هم المورثون وقيل معناه ولكل جعلنا موالي أي ورثة مما ترك وتكون ما بمعنى يعني من من تركهم الميت ثم فسر الموالي فقال الوالدان والأقربون هم الوارثون. والمعنى ولكل شخص جعلنا ورثة ممن تركهم وهم والداه وأقربوه والقول الأول أصح لأنه مروي عن ابن عباس وغيره {والذين عاقدت أيمانكم} وقرئ عقدت بغير ألف مع التخفيف والمعاقدة المحالفة والمعاهدة والأيمان جمع يمين يحتمل أن يراد بها القسم أو اليد أو هما جميعاً وذلك أنهم كانوا إذا تحالفوا أخذ كل واحد منهم بيد صاحبه وتحالفوا على الوفاء بالعهد والتمسك بذلك العقد. وكان الرجل يحالف الرجل في الجاهلية ويعاقده فيقول دمي دمك، وهدمي هدمك، وثأري ثأرك وحربي حربك، وسلمي سلمك ترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عني وأعقل عنك فيكون لكل واحد من الحليفين السدس في مال الآخر وكان الحكم ثابتاً في الجاهلية وابتداء الإسلام فذلك قوله تعالى: {فآتوهم نصيبهم} يعني أعطوهم حظهم من الميراث ثم نسخ الله هذا الحكم بقوله وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار لما قدموا المدينة وكانوا يتوارثون بتلك المؤاخاة دون النسب والرحم، فلما نزلت ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان نسختها ثم قال والذين عاقدت أيمانكم من النصر والرفادة والنصحية وقد ذهب الميراث ويوصي له وفي رواية أخرى عنه. قال والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسب فيرث أحدهما كالآخر فنسخ ذلك بسورة الأنفال فقال {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله} وقال سعيد بن المسيب: كانوا يتوارثون بالتبني بهذه الآية ثم نسخ ذلك وذهب قوم إلى أن الآية ليست بمنسوخة بل حكمها باقٍ والمراد بقوله والذين عاقدت أيمانكم الحلفاء والمراد من قوله فآتوهم نصيبهم يعني من النصرة والنصيحة والموافاة والمصافاة ونحو ذلك فعلى هذا لا تكون منسوخة وقيل نزلت في عبدالرحمن بن أبي بكر الصديق عن داود بن الحصين قال: كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع وكانت يتيمة في حجر أبي بكر الصديق، فقرأت والذين عاقدت أيمانكم فقالت: لا تقرأ والذين عقدت أيمانكم إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى الإسلام فحلف أبو بكر أن لا يورثه فلما أسلم أمره الله أن يؤتيه نصيبه أخرجه أبو داود على هذا فلا نسخ أيضاً فمن قال إن حكم الآية باق قال: إنما كانت المعاقدة في الجاهلية على النصرة لا غير والإسلام لم يغير ذلك ويدل عليه ما روي عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة» أخرجه مسلم. وقوله تعالى: {إن الله كان على شيء شهيداً} قال عطاء: يريد أنه لم يغب عنه علم ما خلق وبرأ فعلى هذا الشهيد بمعنى الشاهد والمراد منه علمه بجميع الأشياء وقيل الشهيد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه فعلى هذا الشاهد بمعنى المخبر وفيه وعد للطائعين ووعيد للعصاة المخالفين.
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)} قوله عز وجل: {الرجال قوامون على النساء} نزلت في سعد بن الربيع وكان من النقباء وفي امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، ويقال امرأته بنت محمد بن مسلمة وذلك أنها نشزت عليه فلطمها فانطلق أبوها معها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أفرشته كريمتي فلطمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم «لتقتص من زوجها» فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ارجعوا هذا جبريل أتاني» فأنزل الله تعالى هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم «أردنا أمراً وأراد الله أمراً والذي أراد الله خير ورفع القصاص» فقوله تعالى: {الرجال قوامون على النساء} أي متسلطون على تأديب النساء والأخذ على أيديهن قال ابن عباس: أمروا عليهن فعلى المرأة أن تطيع زوجها في طاعة الله والقوام هو القائم بالمصالح والتدبير والتأديب فالرجل يقوم بأمر المرأة ويجتهد في حفظها ولما أثبت القيام للرجال على النساء بيّن السبب في ذلك فقال تعالى: {بما فضل الله بعضهم على بعض} يعني أن الله تعالى فضل الرجال على النساء بأمور منها زيادة العقل والدين والولاية والشهادة والجهاد والجمعة والجماعات وبالإمامة لأن منهم الأنبياء والخلفاء والأئمة ومنها أن الرجل يتزوج بأربع نسوة ولا يجوز للمرأة غير زوج واحد ومنها زيادة النصيب في الميراث والتعصيب في الميراث وبيده الطلاق والنكاح والرجعة وإليه الانتساب فكل هذا يدل على فضل الرجل على النساء ثم قال تعالى: {وبما أنفقوا من أموالهم} يعني وبما أعطوا من مهور النساء والنفقة عليهن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» أخرجه الترمذي {فالصالحات} يعني المحسنات العاملات بالخير {قانتات} أي مطيعات لأزواجهن وقيل مطيعات لله {حافظات للغيب} لفروجهن في غيبة أزواجهن لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها ويلحق به الولد الذي هو من غيره وقيل معناه حفظ سر زوجها وحفظ ماله وما يجب على المرأة من حفظ متاع البيت في غيبة زوجها عن أبي هريرة قال قيل يا رسول الله أي النساء خير «قال التي تسره إذا نظر إليها وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ولا مالها بما يكره» أخرجه النسائي ورواه البغوي بسند الثعلبي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها» ثم تلا: {الرجال قوامون على النساء} الآية. وقوله تعالى: {بما حفظ الله} يعني بما حفظهن الله حين أوصى بهن الأزواج وأمرهم بأداء المهر والنفقة إليهن (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «استوصوا بالنساء خيراً فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما في الضلع أعلاه فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته لم يزل أعوج فاستوصوا بالنساء» وقيل في معنى الآية بما حفظن الله وعصمهن ووفقهن لحفظ الغيب وقيل بما حفظ الله من حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بعدل فيهن وإمساكهن بمعروف أو تسريحهن بإحسان {واللاتي تخافون} أي تعلمون وقيل تظنون {نشوزهن} أي شرورهن وأصل النشوز الارتفاع ونشوز المرأة هو بغضها لزوجها ورفع نفسها عن طاعته والتكبر عليه وقيل دلالات النشوز قد تكون بالقول والفعل. فالقول مثل إن كانت تلبيه إذا دعاها وتخضع له خاطبها والفعل مثل إن كانت تقوم له إذا دخل عليها وتسرع إلى أمره إذا أمرها فإذا خالفت هذه الأحوال بأن رفعت صوتها عليه أو لم تجبه إذا دعاها ولم تبادر إلى أمره إذا أمرها دل ذلك على نشوزها على زوجها {فعظوهن} يعني إذا ظهر منهن أمارات النشوز فعظوهن بالتخويف بالقول وهو أن يقول لها اتقي الله وخافيه فإن لي عليك حقاً وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي فرض عليك ونحو ذلك فإن أصرت على ذلك هجرها في المضجع وهو قوله تعالى: {واهجروهن في المضاجع} يعني إن لم ينزعن عن ذلك بالقول فاهجروهن في المضاجع. قال ابن عباس: هو أن يوليها ظهره في الفراش ولا يكلمها وقيل هو أن يعتزل عنها إلى فراش آخر {واضربوهن} يعني إن لم ينزعن بالهجران فاضربوهن يعني ضرباً غير مبرح ولا شائن قيل هو أن يضربها بالسواك ونحوه. وقال الشافعي: الضرب مباح وتركه أفضل عن عمرو بن الأحوص أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ فذكر في الحديث قصة فقال: «ألا فاستوصوا بالنساء خيراً فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئاً غير ذلك إلا أن تأتين بفاحشة مبينة فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً» أخرجه الترمذي بزيادة فيه قوله عوان جمع عانية أي أسيرة شبه المرأة ودخولها تحت حكم زوجها بالأسير والضرب المبرح الشديد الشاق. وقوله: {فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلاً} أي لا تطلبوا عليهن طريقة تحتجون بها عليهن إذا قمن بواجب حقكم عن حكيم بن معاوية عن أبيه. قال: قلت يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه قال: «أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسبت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت» أخرجه أبو داود قوله ولا تقبح أي لا تقل قبحك الله (ق) عن عبدالله بن زمعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد ثم لعله يجامعها أو قال يضاجعها من آخر اليوم» عن إياس بن عبدالله بن أبي ذئاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تضربوا النساء» فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «زبرت النساء على أزواجهن» فرخص في ضربهن فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثيرون يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم» أخرجه أبو داود. إياس بن عبدالله هذا قد اختلف في صحبته وقال البخاري لا يعرف له صحبة قوله زبرت يقال زبرت المرأة على زوجها نشزت واجترأت عليه وأطاف بالشيء أحاط به. ففي هذه الأحاديث دليل على أن الأولى ترك الضرب للنساء فإن احتاج إلى ضربها لتأديب فلا يضربها ضرباً شديداً وليكن ذلك مفرقاً ولا يوالي بالضرب على موضع واحد من بدنها وليتق الوجه لأنه يجمع المحاسن ولا يبلغ بالضرب عشرة أسواط وقيل ينبغي أن يكون الضرب بالمنديل واليد ولا يضرب بالسوط والعصا وبالجملة فالتخفيف بأبلغ شيء وأولى في هذا الباب واختلف العلماء فقال بعضهم حكم الآية مشروع على الترتيب فإن ظاهر اللفظ وإن دل على الجمع إلا أن مجرى الآية يدل على الترتيب قال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها فإن أبت ضربها فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكم. وقال الآخرون هذا الترتيب مراعى عند خوف النشوز أما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل وقيل له أن يعظها عند خوف النشوز وهل له أن يهجرها فيه احتمال ذلك وله عند ظهور النشوز أن يعظها وأن يهجرها أو يضربها عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُسأل الرجل فيم ضرب امرأته» أخرجه أبو داود (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان عليها لعنتها الملائكة حتى تصبح» وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو امرأته إلى فراشه فتأبى عليه إلاّ كان الذي في السماء ساخطاً عليها حتى يرضى عنها» وفي رواية: «إذا باتت مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح وفي أخرى» حتى ترجع عن طلق بن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعا الرجل امرأته إلى حاجته فلتأته وإن كانت على التنور» أخرجه الترمذي وله عن معاذ بن جبل أن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين لا تؤذيه قاتلك الله فإنما هو دخيل عندك يوشك أن يفارقك إلينا» وله عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة» وقوله تعالى: {فإن أطعنكم} يعني فإن رجعن عن النشوز إلى طاعتكم عند هذا التأديب فلا تبغوا عليهن سبيلاً يعني فلا تطلبوا عليهن الضرب والهجران على سبيل التعنت والإيذاء، وقيل معناه أزيلوا عنهن التعرض بالأذى والتوبيخ ولا تجنوا عليهن الذنوب وقيل معناه لا تكلفوهن محبتكم فإن القلب ليس بأيديهن {إن الله كان علياً كبيراً} العلي الكبير في صفة الله تعالى معناه الرفيع الذي يعلو عن وصف الواصفين ومعرفة العارفين بالإطلاق الذي يستحق جميع صفات المدح والتكبير هو المستغني عن غيره وذلك هو الله تعالى الموصوف بالجلال والعظمة والكبرياء وكبر الشأن الذي يصغر كل أحد لكبريائه وعظمته تعالى: والمعنى إن الله متعال من أن يكلف عباده ما لا يطيقونه. وقيل إن النساء وإن ضعفن عن دفع ظلم الرجال عنهن فإن الله علي كبير قادر على أن ينتصف لهن ممن ظلمهن من الرجال وقيل معناه أن الله مع علوه وكبريائه يقبل توبة العاصي إذا تاب ويغفر له فإذا تابت المرأة من نشوزها، فالأولى بكم أن تقبلوا توبتها وتتركوا معاتبتها واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على من تحب أيديكم فأنتم أحق بالعفو عمن جنى عليكم.
{وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)} قوله تعالى: {وإن خفتم} يعني وإن علمتم وتيقنتم وقيل معناه الظن أي ظننتم {شقاق بينهما} يعني بين الزوجين وأصل الشقاق المخالفة وكون كل واحد من المتخالفين في شق غير شق صاحبه أو يكون أصله من شق العصا وهو أن يقول كل واحد من الزوجين ما يشق على صاحبه سماعه، وذلك أنه إذا ظهر بين الزوجين شقاق ومخالفة واشتبه حالهما ولم يفعل الزوج الصلح ولا الصفح ولا الفرقة وكذلك الزوجة لا تؤدي الحق ولا الفدية وخرجا إلى ما لا يحل قولاً وفعلاً. قوله تعالى: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} اختلفوا في المخاطبين بهذا ومن المأمور ببعثة الحكمين، فقيل المخاطب بذلك هو الإمام أو نائبه لأن تنفيذ الأحكام الشرعية إليه وقيل المخاطب بذلك كل أحد من صالحي الأمة لأن قوله تعالى فابعثوا خطاب الجمع وليس حمله على البعض أولى من حمله على البعض أولى من حمله على البقية فوجب حمله على الكل فعلى هذا يجب أن يكون أمراً لآحاد الأمة سواء وجد الإمام أو لم يوجد. فللصالحين أن يبعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، وأيضاً فهذا يجري مجرى دفع الضرر فلكل واحد أن يقول به وقيل وهو خطاب للزوجين فإذا حصل بينهما شقاق بعثاً حكمين حكماً من أهله وحكماً من أهلها {إن يريدا إصلاحاً} يعني الحكمين وقيل الزوجين {يوفق الله بينهما} يعني بالصلاح والألفة روى الشافعي بسنده عن علي بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه جاءه رجل وامرأة ومع كل واحد منهما فئام من الناس فقال: علام شأن هذين؟ قولوا: وقع بينهما شقاق قال علي فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها ثم قال للحكمين تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما وإن رايتما أن تفرقا فرقتما فقالت المرأة رضيت بكتاب الله بما علي فيه ولي وقال الرجل أما الفرقة فلا قال علي كذبت والله حتى تقر بمثل ما أقرت به. قال الشافعي: والمستحب أن يبعث الحاكم عدلين ويجعلهما حكمين والأولى أن يكون واحد من أهله وواحد من أهلها لأن أقاربهما أعرف بحالهما من الأجانب وأشد طلباً للإصلاح فإن كانا أجنبيين جاز وفائدة الحكمين أن كل واحد منهما يخلو بصاحبه ويستكشف حقيقة الحال ليعرف أن رغبته في الإقامة على النكاح أو في المفارقة ثم يجتمعان فيفعلان ما هو الصواب من اتفاق أو طلاق أو خلع والحكمان وكيلان للزوجين وهل يجوز تنفيذ أمر يلزم الزوجين دون رضاهما وإذنهما في ذلك مثل أن يطلق حكم الرجل أو يفتدي حكم المرأة بشيء من مالها، فللشافعي في ذلك قولان: أحدهما أنه لا يجوز إلا برضاهما وليس الحكم الزوج أن يطلق إلا بإذنه ولا لحكم المرأة ان يختلع بشيء من مالها إلا بإذنها وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد لأن علياً توقف حين لم يرضَ الزوج وذلك حين قال أما الفرقة فلا فقال له علي كذبت حتى تقر بمثل ما أقرت به فثبت أن تنفيذ الأمر موقوف على إقراره ورضاها ومعنى قول علي للزوج كذبت أي لست بمنصف في دعواك حيث لم تقر بمثل ما أقرت به من الرضا بحكم كتاب الله لها وعليها والقول الثاني إنه يجوز بعث الحكمين دون رضاهما ويجوز لكم الزوج أن يطلق دون رضاه ولحكم الزوجة أن يختلع دون رضاها إذا رأيا الصلاح في ذلك كالحاكم يحكم بين الخصمين وإن لم يكن على وفق مرادهما وبه قال مالك: ومن قال بهذا القول قال ليس المراد من قول علي للزوج حتى تقر أن رضاه شرط بل معناه أن المرأة لما رضيت بما في كتاب الله تعالى. فقال الرجل أما الفرقة فلا يعني ليست الفرقة في كتاب الله فقال له علي: كذبت حتى أنكرت أن تكون الفرقة في كتاب الله، بل هي في كتاب الله فإن قوله تعالى يوفق الله بينهما يشتمل على الفراق وعلى غيره لأن التوفيق أن يخرج كل واحد منهما من الإثم والوزر ويكون تارة ذلك بالفراق وتارة بصلاح حاليهما في الوصلة. وقوله تعالى: {إن الله كان عليماً خبيراً} يعني أن الله تعالى يعلم كيف يوفق بين المختلفين ويجمع بين المتفرقين وفيه وعيد شديد للزوجين والحكمين إن سلكوا غير طريق الحق.
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)} قوله عز وجل: {واعبدوا الله} يعني وحدوه وأطيعوه وعبادة الله تعالى عبارة عن كل فعل يأتي به العبد لمجرد الله تعالى ويدخل فيه جميع أعمال القلوب وأعمال الجوارح {ولا تشركوا به شيئاً} يعني وأخلصوا له في العبادة ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكاً لأن من عبد مع الله غيره أو أراد بعمله غير الله فقد أشرك به ولا يكون مخلصاً (ق) عن معاذ بن جبل قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير أو اسمه يعفور فقال: يا معاذ هل تدري ما حق الله على عباده وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: «فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً فقلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال لا تبشرهم فيتكلوا» قوله هل تدري ما حق الله على عباده معناه ما يستحقه مما أوجبه وجعله متحتماً عليهم ثم فسر ذلك الحق بقوله أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وقوله وما حق العباد على الله إنما قال حقهم على سبيل المقابلة لحقه عليهم لا لأنهم يستحقون عليه شيئاً ويجوز أن يكون من قول الرجل لصاحبه حقك عليّ واجب أي متأكد قيامي به. وقوله أفلا أبشر الناس إلخ إنما قال لا تبشرهم فيتكلوا. لأنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك أصلح لهم وأحرى أن لا يتلكوا على هذه البشارة ويتركوا العمل الذي ترفع لهم به الدرجات في الجنة. وقوله تعالى: {وبالوالدين إحساناً} تقديره وأحسنوا بالوالدين إحساناً يعني برّاً بهما واعطفا عليهما وإنما قرن بر الوالدين بعبادته وتوحيده لتأكد حقهما على الولد. واعلم أن الإحسان بالوالدين هو أن يقوم بخدمتها ولا يرفع صوته عليهما ويسعى في تحصيل مرادهما والإنفاق عليهما بقدر القدرة (ق) عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال أمك قال ثم من؟ قال ثم أمك؟ قال ثم من؟ قال ثم أمك؟ قال ثم من؟ قال ثم أبوك؟» وفي رواية قال: «أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك قوله ثم أباك فيه حذف تقديره ثم بر أباك» (م) عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رغم أنفه رغم أنفه رغم أنفه قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة» قوله تعالى: {وبذي القربى} أي وأحسنوا إلى ذي القرابة وهو ذوو رحمه من قبل أبيه وأمه (ق) عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه» قوله ينسأ له في أثره يعني يؤخر له في أجله وعمره. وقوله تعالى: {واليتامى والمساكين} أي وأحسنوا إلى اليتامى وإنما أمر بالإحسان إليهم لأن اليتيم مخصوص بنوعين من العجز والصغر وعدم المشفق المسكين هو الذي ركبه ذل الفاقة والفقر فتمسكن لذلك (خ) عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا وكافل اليتيم في الجنة» هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً. عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «قال الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله وأحسبه قال وكالقائم الذي لا يفتر وكالصائم الذي لا يفطر» وقوله تعالى: {والجار ذي القربى والجار الجنب} أي وأحسنوا إلى الجار ذي القربى وهو الذي قرب جواره منك والجار الجنب هو الذي بعد جواره عنك وقيل الجار ذي القربى هو القريب والجار الجنب هو الأجنبي الذي ليس بينك وبينه قرابة: (ق) عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» وعن عائشة مثله (خ) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي قال إلى أقربهما باباً منك» (م) عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذر إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها وتعاهد جيرانك» وفي رواية قال أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم: «قال إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل البيت من جيرانك فأصبهم منها بمعروف» (ق) عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قيل من يا رسول الله؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه» ولمسلم «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه» البوائق الغوائل والشرور (ق) عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا نساء المؤمنات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» معناه ولو أن تهدي إليها فرسن شاة وهو الظلف وأراد به الشيء الحقير (ق) عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» وقوله تعالى: {والصاحب بالجنب} قال ابن عباس هو الرفيق في السفر وقيل هي المرأة تكون معك إلى جنبك وقيل هو الذي يصحبك رجاء نفعك. عن عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير الأصحاب عند الله تعالى خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله تعالى خيرهم لجاره» أخرجه الترمذي وقال حديث حسن وقوله تعالى: {وابن السبيل} يعني المسافر المجتاز بك الذي قد انقطع به وقال الأكثرون المراد بابن السبيل الضيف يمر بك فتكرمه وتحسن إليه (ق) عن أبي شريح خويلد بن عمرو العدوي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته قالوا وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه» وقال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» زاد في رواية «ولا يحل لرجل مسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه. قال: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟ قال يقيم عنده ولا شيء عنده يقربه به» قوله جائزته يومه وليلته الجائزة العطية أي يقري الضيف ثلاثة أيام ثم يعطيه ما يجوز به من منهل إلى منهل وقيل هو أن يكرم الضيف فإذا سافر أعطاه ما يكفيه يوماً وليلة حتى يصل إلى موضع آخر وقوله أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه أي يوقعه في الإثم لأنه إذا أقام عنده ولم يقرِه أثم بذلك. وقوله تعالى: {وما ملكت أيمانكم} يعني المماليك فأحسنوا إليهم والإحسان إليهم أن لا يكلفهم ما لا يطيقون ولا يؤذيهم بالكلام الخشن وأن يعطيهم من الطعام الكسوة ما يحتاجون إليه بقدر الكفاية عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة سيئ الملكة» أخرجه الترمذي عن رافع بن مكيث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حسن الملكة نماء وسوء الخلق شؤم» أخرجه أبو داود وله عن علي بن أبي طالب قال كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم» (ق) عن المعرور بن سويد قال رأيت أبا ذر وعليه حلة وعلى غلامه حلة مثلها فسألته عن ذلك فذكر أنه سابّ رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعيره بأمه فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إنك امرؤ فيك جاهلية قلت على ساعتي هذه من كبر سني قال نعم هم إخوانكم وخولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم فأعينوهم عليه» وقوله تعالى: {إن الله لا يحب من كان مختالاً} المختال المتكبر العظيم في نفسه الذي لا يقوم بحقوق الناس {فخوراً} الفخور هو الذي يفتخر على الناس ويعدد مناقبه تكبراً وتطاولاً على من دونه، وقيل هو الذي يفتخر على عباد الله بما أعطاه الله من نعمه ولا يشكره عليها وإنما ختم الله هذه الآية بهذين الوصفين المذمومين لأن المختال الفخور يأنف من أقاربه الفقراء ومن جيرانه الضعفاء فلا يحسن إليهم ولا يلوي بنظره عليهم ولأن المختال هو المتكبر ومن كان متكبراً فلا يقوم بحقوق الناس (ق) عن ابن عمران أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله تعالى يوم القيامة إلى من جر ثوبه خيلاء» (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينظر الله يوم القيامة إلى من جر إزاره بطراً» (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته يختال في مشيته إذ خسف الله به فهو يتجلجل إلى يوم القيامة» (خ) عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «بينما رجل ممن كان قبلكم يجر إزاره من الخيلاء خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» (ق) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الفخر والخيلاء في الفدادين من أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم الفدادون هم الفلاحون والحراثون وأصحاب الإبل والبقر المستكبرون منهما المتكبرون على الناس بهما»
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)} قوله عز وجل: {الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل} نزلت في اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم فكتموها وعلى هذا يكون المراد بالبخل كتمان العلم وقال ابن عباس نزلت في كردم بن زيد ويحيى بن أخطب ورفاعة بن زيد بن التابوت وأسامة بن حبيب ونافع بن أبي نافع ويحيى بن عمر وكانوا يأتون رجالاً من الأنصار ويخاطبونهم يقولون لهم لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون فأنزل الله عز وجل هذه الآية وقيل يحتمل أن يكون المراد بالبخل كتمان العلم ومنع المال لأن البخل في كلام العرب منع السائل من فضل ما لديه وإمساك المقتنيات وفي الشرع البخل عبارة عن إمساك الواجب ومنعه، وإذا كان ذلك أمكن حمله على منع المال ومنع العلم {ويكتمون ما آتاهم الله من فضله} يعني اليهود كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وما عندهم من العلم وقيل هم الأغنياء الذين كتموا الغنى وأظهروا الفقر وبخلوا بالمال {وأعتدنا للكافرين} يعني الجاحدين نعمة الله عليهم {عذاباً مهيناً} يعني في الآخرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خصلتان لا يجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق» أخرجه الترمذي وقال حديث غريب
{وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} قوله عز وجل: {والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس} يعني للفخار والسمعة وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا يريدون بما أنفقوا وجه الله تعالى (م) عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله تبارك وتعالى:» أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه «نزلت في هذه الآية في اليهود وقيل في المنافقين لأن الريا ضرب من النفاق، وقيل نزلت في مشركي مكة المنفقين أموالهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم {ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} يعني ولا يصدقون بتوحيد الله ولا بالمعاد الذي فيه جزاء الأعمال أنه كائن {ومن يكن الشيطان له قريناً فساء قريناً} يعني من يكن الشيطان صاحبه وخليله فبئس الصاحب وبئس الخليل الشيطان، وإنما اتصل الكلام هنا بذكر الشيطان تقريعاً لهم على طاعة الشيطان. والمعنى من يكن عمله بما سول له الشيطان فبئس العمل عمله وقيل هذا في الآخرة يجعل الله الشياطين قرناءهم في النار يقرن مع كل كافر شيطان في سلسلة من النار ثم وبخهم الله تعالى وعيرهم على ترك الإيمان فقال تعالى: {وماذا عليهم} يعني وأي شيء عليهم وأي وبال وتبعة تلحقهم {لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله} أي أي وبال عليهم في الإيمان بالله والإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته {وكان الله بهم عليماً} يعني لا يخفى عليه شيء من أعمال هؤلاء الذين ينفقون أموالهم لأجل الرياء والسمعة ففيه وعيد وتهديد لهم. قوله عز وجل: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} نظم الكلام وماذا عليهم لو آمنوا وأنفقوا فإن الله لا يظلم ولا يبخس ولا ينقص أحداً من ثواب عمله مثقال ذرة يعني وزني ذرة. وقال ابن عباس: الذرة رأس نملة حمراء وقيل الذرة كل جزء من أجزاء الهباء الذي يكون في الكوة إذا كان فيها ضوء الشمس لا وزن لها وهذا مثل ضربه الله تعالى لأقل الأشياء والمعنى أن الله تعالى لا يظلم أحداً شيئاً من قليل ولا كثير فخرج الكلام على أصغر شيء يعرفه الناس {وإن تك حسنة يضاعفها} يعني الحسنة بعشر أمثالها وقيل هذا عند الحساب فمن بقي له من الحسنات مثقال ذرة ضاعفها الله له إلى سبعمائة وإلى أجر عظيم. قال قتادة: لأن تفضل حسناتي على سيئاتي بمثقال ذرة أحب إليّ من الدنيا وما فيها (م) عن أنس عن مالك في قوله تعالى: إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يعطي بها في الدنيا ويجزي بها في الآخرة « «وأما الكافر فيعطي بحسنات قد عمل بها في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزي بها» عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى سيخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مثل مد البصر ثم يقول أتنكر من هذا شيئاً أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول لا يا رب فيقول أفلك عذر؟ فيقول لا يا رب فيقول تعالى: بل إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم فيخرج بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً عبده ورسول الله فيقول احضر وزنك فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فقال فإنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله شيء» أخرجه الترمذي (ق) عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلّم سلّم قيل يا رسول الله وما الجسر قال دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوش في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد منا شدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار» وفي رواية فما أنتم بأشد مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلّون ويحجّون. فيقال لهم أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به فيقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحداً ممن أمرتنا به ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه. فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها ممن أمرتنا أحداً ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فاخرجوه فيخرجون خلقاً كثيراً ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيراً وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرؤوا إن شئتم إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً فيقول الله تبارك وتعالى شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوات خيراً قط قد عادوا حمماً فيلقيهم في نهر أفواه الجنة يقال له نهر الحياة فيخرجون كما تخرج الحبة في حميل السيل ألا ترونها تكون إلى الحجر أو إلى الشجر ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض فقالوا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى بالبادية قال فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله الذين أدخلهم الله الجنة بغير عمل عملوه ولا خير قدموه. ثم يقول ادخلوا الجنة فما رأيتموه فهو لكم فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين فيقول لكم عندي أفضل من هذا فيقولون ربنا أي شيء أفضل من هذا؟ فيقول رضاي فلا أسخط عليكم بعده أبداً لفظ مسلم وهو بعض حديث. وقال بعضهم هذه الآية واردة في الخصوم ويدل عليه ما روي عن عبدالله بن مسعود قال: إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد من عند الله إلا من كان يطلب مظلمة فليجئ إلى حقه فليأخذه قال فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته أو أخيه منه وإن كان صغيراً ومصداق ذلك في كتاب الله تعالى قوله تعالى: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} ويؤتى بالعبد وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين هذا فلان ابن فلان من كان له عليه حق فليأت إلى حقه ثم يقال له آت هؤلاء حقوقهم فيقول أي رب من أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته انظروا في أعماله الصالحات فأعطوهم منها فإن بقي مثقال ذرة من حسنة قالت الملائكة يا ربنا وهو أعلم بذلك أعطينا كل ذي حق حقه وبقي له مثقال ذرة من حسنة فيقول للملائكة ضعفوها لعبدي وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة ومصداق ذلك في كتاب الله: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} أي الجنة وإن كان عبداً شقياً قالت الملائكة إلهنا فنيت حسناته وبقي طالبون كثير فيقول الله تبارك وتعالى: «خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ثم اكتبوا له كتاباً إلى النار» أخرجه البغوي بغير سند عن ابن مسعود موقوفاً عليه. وأسنده ابن جرير الطبري عن ابن مسعود فمعنى الآية على هذا التأويل إن الله لا يظلم مثقال ذرة للخصم على خصمه بل يأخذها له منه ولا يظلم مثقال ذرة بقي له بل يثيبه عليها ويضاعفها له فذلك قوله تعالى: {وإن تك حسنة يضاعفها} أي يجعلها أضعافاً كثيرة {ويؤت من لدنه} يعني من عنده {أجراً عظيماً} يعني الجنة والمعنى ويعطي من عنده أجراً عظيماً أضعافاً يعني عوضاً من حسنة وذلك العوض هو الجنة وقال أبو هريرة: إذا قال الله عزّ وجلّ أجراً عظيماً فمن يقدر قدره.
{فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)} قوله عز وجل: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} يعني فكيف يكون حال هؤلاء المشركين والمنافقين يوم القيامة إذا جئنا من كل أمة بشهيد. قال ابن عباس: يريد بنبيها والمعنى أنه يؤتى بنبي كل أمة يشهد عليها ولها {وجئنا بك} يا محمد {على هؤلاء شهيداً} يعني تشهد على هؤلاء الذين سمعوا القرآن وخوطبوا به بما عملوا (ق) عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ على القرآن» فقلت يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل؟ «قال إني أن أسمعه من غيري» قال فقرأت عليه سورة النساء حتى جئت إلى هذه الآية فكيف إذ جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً قال حسبك الآن قال فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان زاد مسلم شهيداً ما دمت فيهم أو قال ما كنت فيهم شك أحد رواته. وقوله تعالى: {يومئذ} يعني يوم القيامة {يود} أي يتمنى {الذين كفروا} يعني جحدوا وحدانية الله تعالى {وعصوا الرسول} يعني فيما أمرهم به من توحيد الله عز وجل {لو تسوى بهم الأرض} يعني لو صاروا فيها وسويت عليهم وقيل إنهم ودوا أن لن يبعثوا لأنهم إنما كانوا في الأرض وهي مستوية عليهم. وقال الكلبي: يقول الله تعالى للبهائم والوحوش والطيور والسباع كوني تراباً فتسوى بهن الأرض فعند ذلك يتمنى الكافر أن لو يكون تراباً {ولا يكتمون الله حديثاً} قال ابن عباس: في رواية عطاء ودوا لو تسوى بهم الأرض وأنهم لم يكونوا كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولا كفروا به ولا نافقوه فعلى هذا القول يكون الكتمان ما كتموا في الدنيا من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وهو كلام متصل بما قبله وقيل هو كلام مستأنف قال سعيد بن جبير سأل رجل ابن عباس فقال إني أجد في القرآن أشياء تختلف علي قال: هات ما يختلف عليك قال منها قوله تعالى {ولا يكتمون الله حديثاً} ومنها قوله تعالى {والله ربنا ما كنا مشركين} فقد كتموا فقال يغفر الله تعالى لأهل الإسلام ذنوبهم ويدخلهم الجنة فيقول المشركون تعالوا نقول ما كنا مشركين فيقولون والله ربنا ما كنا مشركين رجاء أن يغفر لهم، فيختم على أفواههم وتنطق أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون فعند ذلك عرفوا أن الله لا يكتم حديثاً وعنده يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض فلا يختلف عليك القرآن فإن كلاًّ من عند الله. وقال الحسن: إنها مواطن، ففي مواطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همساً وفي موطن يتكلمون ويكذبون ويقولون {والله ربنا ما كنا مشركين} وما كنا نعمل من سوء في موطن يعترفون على أنفسهم وهو قوله تعالى فاعترفوا بذنبهم وفي موطن لا يتساءلون وفي موطن يسألون الرجعة وآخر تلك المواطن أن يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم فهو قوله تعالى ولا يكتمون الله حديثاً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)} قوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} جمع سكران {حتى تعلموا ما تقولون} سبب نزول هذه الآية ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال صنع لنا ابن عوف طعاماً فدعانا فأكلنا وسقانا خمراً قبل تحريم الخمر فأخذت منا وحضرت الصلاة فقدموني فقرأت: قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون قال فخلطت فنزلت {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} أخرجه الترمذي وقال حديث حسن غريب وأخرجه أبو داود ولفظه أن رجلاً من الأنصار دعاه وعبدالرحمن بن عوف فسقاهما قبل أن تحرم الخمر فحضرت الصلاة فأمَّهم علي في المغرب فقرأ قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت الآية: {لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون} وروى ابن جرير الطبري عن ابن عباس أن رجالاً كانوا يأتون الصلاة وهم سكارى قبل أن تحرم الخمر فقال الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} الآية فعلى هذا ففي المراد بالصلاة قولان: أحدهما أنه نفس الصلاة ذات الركوع والسجود وهو قول الأكثرين المعنى لا تصلّوا وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون. والقول الثاني إن المراد بالصلاة موضع الصلاة وهو المسجد وإطلاق لفظ الصلاة على المسجد محتمل فيكون من باب حذف المضاف. والمعنى لا تقربوا مواضع الصلاة وأنتم سكارى وحذف المضاف جائز سائغ. ويدل عليه قوله تعالى لهدمت صوامع وبيع وصلوات والمراد بالصلوات موضاعها فثبت أن إطلاق لفظ الصلاة والمراد موضعها جائز. واعلم أن هذا النهي عن قربان الصلاة في حالة السكر إنما كان قبل تحريم الخمر فكانوا يشربونها في غير أوقات الصلاة ثم نزل تحريم الخمر بعد ذلك ونسخت هذه الآية وقال الضحاك المراد بالسكر سكر النوم يعني لا تقربوا الصلاة عند غلبة النوم ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلّى وهو ناعس لا يدري لعله يدري يذهب يستغفر ربه فيسب نفسه» أخرجاه في الصحيحين. وقوله تعالى: {ولا جنباً} يعني ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الإجناب وأصل الجنابة البعد سمي الذي أصابته الجنابة جنباً لأنه يتجنب الصلاة والمسجد وقيل لمجانبته الناس حتى يغتسل {إلاّ عابري سبيل} العابر هاهنا فاعل من العبور وهو قطع الطريق من هذا الجانب إلى الجانب الآخر واختلف العلماء في معنى قوله إلا عابري سبيل على قولين: أحدهما إن المراد بالعبور هو العبور في المسجد وذلك أن قوماً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فتصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ولا ممر لهم إلاّ في المسجد فرخص لهم العبور فيه فعلى هذا القول يكون المراد بالصلاة موضع الصلاة والمعنى لا تقربوا المسجد وأنتم جنب إلا مجتازين فيه للخروج منه أو للدخول فيه مثل أن يكون قد نام في المسجد فأجنب فيجب الخروج منه أو يكون الماء في المسجد فيدخل إليه أو يكون طريقه عليه فيمر فيه من غير إقامة وهذا قول ابن مسعود وأنس بن مالك والحسن وسعيد بن المسيب وعكرمة وعطاء الخرساني والنخعي والزهري وإليه ذهب الشافعي وأحمد. القول الثاني أن المراد من قوله إلاّ عابري سبيل المسافرون والمعنى لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إلا أن تكونوا مسافرين ولم تجدوا الماء فتيمموا فمنع الجنب من الصلاة حتى يغتسل إلا أن يكون في سفر ولا ماء معه فيتيمم ويصلّي إلى أن يجد الماء فيغتسل وهذا قول علي وابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة فمن جعل عابري السبيل المسافرين منه الجنب من العبور في المسجد وهو مذهب أبي حنيفة. وصحح ابن جرير الطبري الواحدي القول الأول ويدل على صحته وجهان: أحدهما أن المسافر الجنب لا تصح صلاته بدون التيمم ولم يذكر التيمم ها هنا فيحتاج إلى إضمار شيئين: عدم الماء وذكر التيمم وعلى القول الأول لا يحتاج إلى إضمار شيء. الوجه الثاني أن الله ذكر حكم السفر وعدم الماء وجواز التيمم بعد هذا فلا يحل هذا على حكم معاد في الآية ويدل على أن جميع القراء استحسنوا الوقف على قوله: {حتى تغتسلوا} يعني إلى أن تغتسلوا وفيه دليل على أن حكم الجنابة باقٍ على الجنب إلى غاية هي الاغتسال.
فصل في أحكام تتعلق بالآية اختلف العلماء في العبور في المسجد فأباحه قوم على الإطلاق وهو قول الحسن وبه قال مالك والشافعي ومنعه بعضهم على الإطلاق وهو قول أصحاب الرأي. وقال قوم يتيمم للعبور في المسجد واختلف العلماء في المكث في المسجد أيضاً للجنب فمنعه أكثر أهل العلم وقالوا لا يجوز للجنب المكث في المسجد بحال لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه بيوت أصحاب شراعة في المسجد فقال: «وجهوا هذه البيوت عن المسجد» ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يصنع القوم شيئاً رجاء أن تنزل لهم رخصة فخرج إليهم بعد. فقال «وجهوا هذه البيوت عن المسجد فإني لا أحل لحائض ولا جنب» أخرجه أبو داود وجوز أحمد المكث في المسجد بشرط الوضوء به. قال المزني من أصحاب الشافعي وأجاب أحمد عن حديث عائشة بأنه في رواته مجهول. وقال عبد الحق لا يثبت من قبل إسناده وأستدل أحمد لمذهبه بما روي عن عطاء بن يسار قال رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضؤوا وضوء الصلاة أخرجه سعيد بن منصور في مسنده واحتج لمذهب الجمهور بعموم الآية وبما روي عن أم سلمة قالت دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم صرحة هذا المسجد فنادى بأعلى صوته «أن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض» أخرجه ابن ماجه ويحرم على الجنب أيضاً الطواف وقراءة القرآن كما يحرم عليه فعل الصلاة ويدل على ذلك أيضاً ما روي عن علي بن أبي طالب قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته ثم يخرج فيقرأ ويأكل معنا اللحم ولا يحجبه وربما قال ولا يحجزه من القرآن شيء ليس الجنابة أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي ولفظه كان يقرأ القرآن على كل حال ما لم يكن جنباً وقال حديث حسن صحيح عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقرأ الجنب ولا الحائض ولا النفساء من القرآن شيئاً» أخرجه الدارقطني ويجب الغسل بأحد الشيئين: بإنزال المني وهو الماء الدافق أو بإيلاج الحشفة في الفرج وإن لم ينزل ويدل على ذلك ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاماً «قال يغتسل وعن الوجه يرى أنه احتلم ولا يجد بللاً. قال لا غسل عليه قالت أم سلمة والمرأة ترى ذلك أعليها غسل؟ قال نعم؟» أخرجه أبو داود والترمذي (ق) عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل» زاد في رواية وإن لم ينزل. وقوله تعالى: {وإن كنتم مرضى} جمع مريض وأراد به المرض الذي يضر معه إمساك الماء مثل الجدري وإحراق النار ونحو ذلك وإن كان على بعض مع وجود الماء وإن كان بعض أعضائه من استعمال الماء التلف أو زيادة الوجع فإنه يتيمم ويصلي مع وجود الماء وإن كان بعض أعضائه صحيحاً وبعضها جريحاً غسل الصحيح وتيمم للجريح في الوجه واليدين لما روي عن جابر قال: خرجنا في سفرنا فأصاب رجلاً منا حجراً فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فقال: «قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنا شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو قال يصعب شك الراوي على جرحه خرقة ثم يمسح عليه ويغسل سائر جسده» أخرجه أبو داود والدارقطني ولم يجوز أصحاب الرأي الجمع بين الغسل والتيمم قالوا إذا كان أكثر أعضائه أو بدنه صحيحاً غسل الصحيح ولا يتيمم عليه وإن كان الأكثر جريحاً اقتصر على التيمم والحديث حجة لمن أوجب الجمع بين الغسل والتيمم. قوله تعالى: {أو على سفر} يعني أو كنتم مسافرين وأراد به السفر الطويل والقصير وعدم الماء فإنه يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه لما روي عن أبي ذر قال: «اجتمعت غنيمة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبا ذر ابد فيها فبدوت إلى الربذة فكانت تصيبني الجنابة فأمكث الخمس والست فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو ذر فسكت فقال ثكلتك أمك يا أبا ذر لأمك الويل فدعا بجارية سوداء فجاءت بعس فيه ماء فسترتني بثوب واستترت بالراحلة فاغتسلت، فكأني ألقيت عني جبلاً. فقال الصعيد الطيب: وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك فإن ذلك خير أخرجه أبو داود العس قدح من فخار يجعل فيه الماء للوضوء والاغتسال. أما إذا لم يكن الرجل مريضاً ولا على سفر وعدم الماء في موضع لا يعدم فيه غالباً فإنه يتيمم ويصلي ثم يعيد إذا وجد الماء وقدر عليه وبه قال الشافعي وقال مالك والأوزاعي لا إعادة عليه وقال ابو حنيفة يؤخر الصلاة حتى يجد الماء. وقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} الغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان وكانت عادة العرب إتيان الغائط للحدث فكنوا به عن الحدث وذلك أن الرجل منهم كان إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطاً من الأرض يعني مكاناً منخفضاً من الأرض يحجبه عن أعين الناس فسمي الحدث بهذا الاسم فهو من باب تسمية الشيء باسم مكانه. وقوله تعالى {أو لامستم النساء} قرئ هنا وفي سورة المائدة لامستم النساء ولمستم بغير ألف واختلف العلماء في معنى الملامسة على قولين أحدهما أنه الجماع وهو قول علي وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ووجه هذا القول أن الله تعالى كنى باللمس عن الجماع لأن اللمس يوصل إليه. قال ابن عباس إن الله حيي كريم يكني عن الجماع بالملامسة، والقول الثاني إن المراد باللمس هنا التقاء البشرتين سواء كان بجماع أو بغير جماع وهو قول ابن مسعود وابن عمر والشعبي والنخعي ووجه هذا القول إن اللمس حقيقة في اللمس باليد فأما حمله على الجماع فمجاز والأصل حمل الكلام على الحقيقة لا على المجاز. وأما قراءة من قرأ أو لامستم فالملامسة مفاعلة والأصل حمل الكلام على الحقيقية لا على الإطلاق لأنه قد ورد في الحديث النهي عن بيع الملامسة قال أبو عبيدة في معناها هي أن يقول: إذا لمست ثوبي أو لمست ثوبك فقد وجب البيع فالملامسة في الحديث بمعنى اللمس باليد وإذا كانت مستعملة في غير المجامعة لم يدل قوله تعالى: {أو لامستم النساء} على صريح الجماع بل حمل على الأصل الموضوع له وهو اللمس باليد.
فصل في أحكام تتعلق بالآية وفيه مسائل: المسألة الأولى: إذا أفضى الرجل بشيء من بدنه إلى شيء من بدن المرأة ولا حائل بينهما انتقض وضوءهما وهو قول ابن مسعود وابن عمر وبه قال الزهري والأوزاعي والشافعي لما روي الشافعي عن ابن عمر أنه قال قبلة الرجل امرأته وجسها بيده من الملامسة فمن قبّل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء أخرجه مالك في الموطأ قال الشافعي: وبلغنا عن ابن المسعود مثله وقال مالك والليث بن سعد وأحمد وإسحاق إذا كان اللمس بشهوة انتقض الوضوء وإن لم يكن بشهوة فلا ويدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبّل امرأة من نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ» قال عروة ومن هي إلاّ لا أنت فضحكت أخرجه أبو داود وأجيب عن هذا الحديث بأنه ليس بثابت قال الترمذي إنه لا يصلح إسناده بحال وسمعت محمد بن إسماعيل يضعف هذا الحديث وقال حبيب بن ثابت لم يسمع من عروة وضعف يحيى بن سعيد القطان هذا الحديث وقال هو شبه لا شيء وفيه ضعف من وجه آخر وهو أن عروة هذا ليس بعروة بن الزبير ابن أخت عائشة إنما هو شيخ مجهول قال البيهقي يعرف بعروة المزني وإنما المحفوظ عن عائشة «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم» كذا رواه الثقات عن عائشة وقال أبو حنيفة لا ينتفض الوضوء باللمس إلاّ أن يحدث الانتشار وقال قوم لا ينتقض بحال وهو وقول ابن عباس وبه قال الحسن والثوري واحتج من لم يوجب الوضوء باللمس بما روي عن عائشة أنها قالت: «كنت أنام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجلاي في قبلته فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما والبيوت يومئذٍ ليس فيها مصابيح» أخرجاه في الصحيحين وأجاب من أوجب الوضوء باللمس عن هذا الحديث بأنه يحتمل أن يكون غمزه لها على حائل. المسألة الثانية: اختلف قول الشافعي في لمس المحرم كالأم والبنت والأخت أو أجنبية صغيرة فأصح القولين عنه أنه لا ينتقض الوضوء به والثاني انه ينتقض الوضوء به ومأخذ القولين عند أصحاب الشافعي التردد بين التعلق بعموم الآية في قوله: {أو لا مستم النساء} أو النظر إلى المعنى في النقض باللمس وهو تحرك الشهوة فإن أخذنا بعموم الآية فينتقض الوضوء بلمس المحارم وإن أخذنا بالمعنى فلا ينتقض وفي الملموس قولان والملموس هو الذي لا فعل منه في المباشرة رجلاً كان أو امرأة واللامس هو الفاعل اللمس وإن لم يقصد المباشرة فأحد القولين إنه ينتقض وضوء اللامس والملموس لعموم الآية لأنه لمس وقع بين الرجل والمرأة فينتقض وضوءهما معاً والقول الثاني إنه ينتقض وضوء اللامس دون الملموس لما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: «فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الفراش فالتمسته فوضعت يدي على أخمص قدميه وهو ساجد وهما منصوبتان وهو يقول: اللّهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» أخرجه مسلم فلو انتقض وضوءه صلى الله عليه وسلم لقطع الصلاة ولو لمس شعر امرأة أو سنها أو ظفرها فلا وضوء عليه. المسألة الثالثة في الحديث: وهو الخارج من السبيلين عيناً كالبول والغائط أو أثراً كالريح ونحوها فإذا حصل شي من ذلك فلا تصح صلاته ما لم يتوضأ أو يتيمم عند عدم الماء لما روي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» فقال رجل من أهل حضرموت ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال فساء أو ضراط أخرجاه في الصحيحين أما خروج النجاسة من غير السبيلين كالفصد والحجامة والرعاف والقيء ونحوها فذهب قوم إلى أنه لا وضوء من خروج هذه الأشياء يروى عن ابن عمر وابن عباس وبه قال عطاء وطاوس والحسن وابن المسيب وإليه ذهب مالك والشافعي لما روي عن أنس قال: «احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه» أخرجه الدارقطني وذهب قوم إلى إيجاب الوضوء من ذلك منهم سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق واتفق هؤلاء على أن خروج القليل منه لا ينقض الوضوء ويدل على انتقاض الوضوء بخروج هذه الأشياء ما روي عن معدان بن أبي طلحة عنه أبي الدرداء: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ قال معدان فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك فقال صدق أنا صببت له وضوءه» أخرجه الترمذي وقال هو أصح شيء في هذا الباب. المسألة الرابعة: من نواقض الوضوء زوال العقل بجنون أو إغماء أو نوم لما روي عن علي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ» أخرجه أبو داود وابن ماجه ويستثنى من ذلك النوم اليسير قاعداً مفضياً بمحل الحدث إلى الأرض ويدل على ذلك ما روي عن أنس. قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون العشاء الأخير حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون أخرجه أبو داود وذهب قوم إلى أن النوم لا ينقض الوضوء بكل حال وهو قول أبي هريرة وعائشة وبه قال الحسن وإسحاق والمزني وذهب قوم إلى أنه لو نام قائماً أو قاعداً أو ساجداً وهو في الصلاة فلا وضوء عليه حتى يضطجع وبه قال سفيان الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس على من نام ساجداً وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله» أخرجه أحمد بن حنبل وضعف بعضهم هذا الحديث. المسألة الخامسة: من نواقض الوضوء مس الفرج من نفسه أو غيره فذهب قوم إلى أنه يوجب الوضوء وهو قول عمر وابن عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وعائشة وبه قال سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وإليه ذهب الأوزاعي الشافعي وأحمد وإسحاق غير أن الشافعي قال: ينتقض الوضوء إذا لمس ببطن الكف والرجل والمرأة في ذلك سواء يدل على ذلك ما روي عن بسرة بنت صفوان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مس ذكره فلا يصلَّ حتى يتوضأ» أخرجه الترمذي وقال حديث صحيح ولأبي داود والنسائي نحوه وعن أم حبيبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من مس فرجه فليتوضأ» أخرجه ابن ماجه وصححه أحمد وأبو زرعة وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أفضى بيده إلى ذكره وليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء» أخرجه أحمد بن حنبل وذهب قوم إلى مس الذكر لا يوحب الوضوء وهو قول علي وابن مسعود وابي الدرداء وحذيفة وبه قال الحسن وإليه ذهب الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي واحتجوا بما روي عن طلق بن علي قال قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه رجل كأنه بدوي فقال: «يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما توضأ قال هل هو إلاّ مضغة أو قال بضعة منه؟» أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي نحوه بمعناه وأجاب من أوجب الوضوء على من مس الذكر عن حديث طلق بن علي بأن قدومه على رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أول الهجرة وهو يبني المسجد وأبو هريرة من آخرهم إسلاماً. وقد روي انتقاض الوضوء بمس الذكر فصار حديث أبي هريرة ناسخاً لحديث طلق بن علي وأيضاً فإن حديث طلق يرويه عنه ابنه قيس بن طلق وهو ليس بالقوي عند أهل الحديث. وقوله تعالى: {فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً} اعلم أن التيمم من خصائص هذه الأمة خصها الله تعالى به ليسهل عليهم أسباب العبادة ويدل على ذلك ما روي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء» أخرجه مسلم وكان سبب بدء التيمم ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فأتى الناس أبو بكر الصديق فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء قالت عائشة فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلاّ مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله عز وجل آية التيمم فتيمموا فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر قال عائشة فبعثنا البعير الذي كنا عليه فوجدنا العقد تحته» أخرجاه في الصحيحين قولها بالبيداء: المفازة والقفر وكل صحراء فهي بيداء وجمعها بيد وذات الجيش اسم لموضع وهو على بريد من المدينة وقولها فبعثنا البعير أي أثرناه قوله تعالى: {فلم تجدوا ماء} هو معطوف على ما قبله والمعنى أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فطلبتم الماء لتطهروا به فلم تجدوه يعني فأعوزكم فلم تجدوه بثمن ولا بغير ثمن لأن المحدث مأمور بالتطهر بالماء فإذا أعوزه الماء عدل عنه إلى التيمم بعد طلب الماء. قال الشافعي: إذا دخل وقت الصلاة طلب الماء فإن لم يجده تيمم وصلى ثم إذا دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى. وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه الطلب للصلاة الثانية حجة الشافعي قوله تعالى فلم تجدوا ماء فعدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه إليه يحتاج إليه لعطشه أو عطش حيوان محترم فإنه يجوز له التيمم مع وجدان ذلك الماء وقوله تعالى: {فتيمموا صعيداً طيباً} أصل التيمم في اللغة القصد يقال تيممت فلاناً إذا قصدته وهو في الشرع عبارة عن أفعال مخصوصة عند عدم الماء لتأدية الصلاة واختلفوا في الصعيد الطيب فقال قتادة الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات. وقال ابن زيد الصعيد: المستوي من الأرض وكذلك قال الليث: الصعيد الأرض المستوية التي لا شيء فيها. وقال الفراء: الصعيد هو التراب وكذلك قال أبو عبيد في قوله صلى الله عليه وسلم: «إياكم والقعود بالصعدات» قال الصعدات الطرق مأخوذ من الصعيد وهو التراب وقيل الصعيد وجه الأرض البارز وهو اختيار الزجاج قال: الصعيد وجه الأرض ولا تبال أكان في الموضع تراب أو لا لأن الصعيد ليس هو التراب إنما هو وجه الأرض ونقل الربيع عن الشافعي في تفسير الصعيد قال: لا يقع اسم الصعيد إلاّ على تراب ذي غبار فأما البطحاء الغليظة والرقيقة فلا يقع عليها اسم الصعيد فإن خالطه تراب أو مدر يكون له غبار كالذي خالطه هو الصعيد قال ولا يتيمم بنوره ولا كحل ولا زرنيخ كل هذا حجارة هذا كلام الشافعي في تفسير الصعيد وهو القدوة في اللغة وقوله في ذلك حجارة هذا كلام الشافعي في تفسير الصعيد وهو القدوة في اللغة وقوله في ذلك وقد وافقه على ذلك الفراء وأبو عبيدة في أنه التراب وجميع الأقوال في الصعيد صحيحه في اللغة لكن المراد به هنا التراب وقد قال ابن عباس في قوله صعيداً هو التراب. واختلف أهل العلم فيما يجوز به التيمم فذهب الشافعي إلى أنه يختص بما وقع عليه اسم التراب مما له غبار يعلق بالوجه واليدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً» فخص التراب بالطهور ولأن الله تعالى وصف الصعيد بالطيب والطيب من الأرض هو الذي ينبت فيها بدليل قوله والبلد الطيب يخرج نباته فعلى هذا ما لا ينبت ليس بطيب ولنا أيضاً قوله تعالى في سورة المائدة فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه وكلمة من للتبعيض هنا ولا يتأتى ذلك في الصخر الذي لا تراب عليه وأيضاً فإنه يقال للغبار صعيد لأنه مأخوذ من الصعود وهو الارتفاع ولا يكون ذلك في الصخر وما أشبهه. وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنه يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض كالرمل والجص والنورة والزرنيخ ونحو ذلك حتى لو ضرب يده على صخرة ملساء لا غبار عليها صح تيمه عندهم واحتج أبو حنيفة ومن وافقه بظاهر الآية قالوا لأن التيمم هو القصد والصعيد اسم لما تصاعد من الأرض فقوله تعالى فتيمموا صعيداً طيباً أي اقصدوا أرضاً فوجب أن يكون هذا القدر كافياً وأجيب عنه بما تقدم من الدليل في قوله منه وإن لفظة من تكون للتبعيض قالوا ولما روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وجعلت لي الأرض مسجداً طهوراً» وأجيب عنه بأن هذا مجمل يفسره ما تقدم من حديث حذيفة في تخصيص التراب والمفسر يقضي على المجمل وجوز بعضهم التيمم بكل ما هو متصل بالأرض من شجر ونبات ومدر ونحو ذلك قالوا لأن اسم الصعيد يقع على ما تصاعد على الأرض وأجيب عنه بما تقدم من الأدلة. وقوله تعالى: {فامسحوا بوجوهكم وأيديكم} الوجه المسموح في التيمم هو المجدود في الوضوء واختلف العلماء فيما يجب مسحه من اليد فذهب أكثر أهل العلم منهم وابن عمر وابنه سالم والحسن وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي أنه يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين وصورة ذلك أن يضرب كفيه على التراب ويمسح بهما وجهه ولا يجب إيصال التراب إلى منابت الشعور ثم يضرب ضربة أخرى ويفرق أصابعه فيمسح يديه إلى المرفقين ويدل على ذلك ما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين» رواه البيهقي ولم يضعفه وروي الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن أبي الحويرث عن الأعرج عن ابن الصمة قال مررت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلمت عليه فلم يرد عليّ حتى قام إلى الجدار فحته بعصا كانت معه ثم وضع يده على الجدار فمسح وجهه وذراعيه ثم رد على هذا حديث منقطع لأن الأعرج وهو عبدالرحمن بن هرمز لم يسمع هذا من ابن الصمة وإنما سمعه من عمير مولى ابن عباس عن ابن الصمة وكذا هو مخرج في الصحيحين عن عمير مولى ابن عباس قال دخلنا على أبي جهيم بن الحارث فقال أبو جهيم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار فوضع يده على الحائط فمسح بوجهه ويديه ثم رد عليه السلام. ولأبي داود عن نافع قال انطلقت مع ابن عمر في حاجة إلى ابن عباس فلما أن قضى حاجته فكان من حديثه فكان من حديثه يومئذٍ أن قال مر رجل في سكة من سكك المدينة فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج من غائط أو بول فسلم عليه الرجل فلم يرد عليه حتى إذا كاد الرجل أن يتوارى في السكة ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على حائط مسح بها وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح بها ذراعيه ثم رد عليه السلام قال: لم يمنعني إن أرد عليك أولاً إلاّ أني لم أكن على طهر وفي رواية فمسح ذراعيه إلى المرفقين فهذا أجود ما في هذا الباب. فإن البيهقي أشار إلى صحة إسناده وفيه دليل على الحكمين يعني مسح الوجه واليدين بضربتين وإيصال المسح إلى المرفقين وفيه دليل على أن التيمم لا يصح ما لم يعلق بالوجه واليدين غبار التراب لأن النبي صلى الله عليه وسلم حث الجدار بالعصى ولو كان مجرد الضرب كافياً لما كان حته. ذهب الزهري أنه يمسح اليد إلى المنكبين ويدل على ذلك ما روي عن عمار بن ياسر قال تمسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد لصلاة الفجر بأكفم الصعيد ثم مسحوا بوجوههم مسحة واحدة ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فمسحوا بأيديهم. كلها إلى المناكب والإباط ثم بطون أيديهم أخرجه أبو داود وذهب جماعة إلى أن التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين وهو قول علي وابن عباس وبه قال الشعبي وعطاء ومكحول وإليه ذهب الأوزاعي ومالك وأحمد وداود الظاهري واحتجوا بما روي عن عمار بن ياسر قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال «إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه، وباطنهما ووجهه» وفي رواية أن تقول هكذا وضرب بيديه الأرض فنفض يديه فمسح وجهه وكفيه أخرجاه في الصحيحين وجملته أن اليد اسم لهذه الجارحة وحدها عند بعض أهل اللغة من أطراف الأنامل إلى الكوع وهذا هو المقطوع في حد السرقة. وقال أبو إسحاق الزّجاج: حدها من أطراف الأنامل إلى الكتف فمن ذهب إلى أن الممسوح في التيمم هو الكف. قال إن حد اليد هو المناكب والأباط نظر إلى أن مسمى اليد يطلق على جميعها ومن ذهب إلى أن الممسوح في التيمم إلى المرفقين قال إن التيمم بدل عن الوضوء واليد المغسولة في الوضوء هي الممسوحة في التيمم فيحمل المطلق الذي في قوله تعالى فامسحوا بوجوهكم وأيديكم على المقيد الذي في قوله تعالى في آية الوضوء فأغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأجاب من ذهب إلى هذا عن حديث عمار بأن المراد منه بيان صورة الضرب وليس المراد منه جميع ما يحصلبه التيمم.
فصل وأركان التيمم خمسة: الأول تراب طاهر خالص له غبار يعلق بالوجه واليدين ويحوز بالرمل إذا كان عليه غبار. الثاني قصد الصعيد فلو تعرض لمهب الريح لم يكفه ولو يممه غيره بإذنه مع عجزه جاز وإن كان قادراً فوجهان. الثالث نقل التراب إلى الوجه واليدين. الرابع نية استباحة الصلاة فلو نوى رفع الحدث لم يصح وأكمله أن ينوي استباحة الفرض والنفل. الخامس مسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين والترتيب ولا يصح التيمم لصلاة إلاّ بعد دخول وقتها ولا يجوز الجمع بين صلاتي فرض بتيمم واحد وهو قول علي وابن عباس وابن عمر وبه قال الشعبي والنخعي وقتادة وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وذهب جماعة إلى أن التيمم كالوضوء فيجوز تقديمه إلى وقت ويجوز أن يصلي به ما شاء من الفرائض ما لم يحدث وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والزهري والثوري وأصحاب الرأي واتفقوا على أنه يجوز أن يصلي بتيمم واحد ما شاء من النوافل قبل الفرض وبعده إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى، وأن يقرأ القرآن إن كان جنباً ويشترط طلب الماء في السفر بأن يطلبه في رحله وعند رفقائه وإن كان في صحراء ولا حائل دون نظره حواليه، وإن كان دون نظره حائل قريب من تل أو جدار أو نحوه عدل عنه لأن الله تعالى قال فلم تجدوا ماء فتيمموا ولا يقال لم يجد إلاّ لمن طلب ولا يشترط طلب عند أبي حنيفة فإن رأى الماء ولا يقدر عليه لمانع من عدو أو سبع يمنعه من الذهاب إليه أو كان الماء في بئر وليس معه آلة الاستقاء فهو كالعادم فيتيمم ويصلي ولا إعادة عليه والله أعلم. وقوله تعالى: {إن الله كان عفواً} يعني يتجاوز عن ذنوب عباده ويعفو ويصفح عنهم {غفوراً} ستوراً على عباده يغفر الذنوب ويسترها وفيه تنبيه على أن الله تعالى رخص لعباده أمر العبادة ويسرها عليهم لأن من كانت عادته أن يغفر الذنوب ويعفو عنها كان أولى بأن يرخص للعاجزين أمر العبادة.
|